tito-yog
1
276
أحد أهم الرموز السياسية في القرن العشرين، واجه النازية بقبضة من حديد، استطاع أيضاً مواجهة الاتحاد السوفييتي وخلق سياسة خاصة مستقلة بيوغسلافيا، كما نجح في القضاء على القومية والعرقية في بلاده، هو الشيوعي الأخير كما يلقب دوماً؛ جوزيف بروز تيتو.

نظرة عن كثب

3513
ولد جوزيف تيتو في السابع من شهر مايو عام 1892، بقرية كومروفيتش بشمال كرواتيا، لأب كرواتي وأم سلوفينية، التحق بالمدرسة الابتدائية عام 1900 ولم يكمل تعليمه بسبب سفره إلى المدينة بحثاً عن عمل، وفي عام 1907 عمل بأحد المصانع في سيساك، مارس بعدها مهنة الحدادة حتى عام 1913، حيث تم تجنيده وإلحاقه بالجيش النمساوي، وفور اشتعال الحرب العالمية الأولى، تم إرساله للقتال في بودابست، وبعد مرور عامين على الحرب تم إرساله إلى الجبهة الشرقية للقتال ضد الروس لكنه أصيب في أحد المعارك وتم أسره على يد القوات الروسية.

محطات هامة في الحياة السياسية

Karsh-Tito-Marshhall-Josip-Broz-1954-01-
قضى جوزيف تيتو نحو 13 شهراً في إحدى المستشفيات بروسيا لتلقي العلاج، وبعد التعافي تم نقله إلى معسكر للأسرى في جبال الأورال، وهناك اختاره السجناء ليكون قائداً لهم. تكاد تكون هذه المحطة الأهم في حياة جوزيف تيتو، حيث كان سجنه الخطوة الأولى في رحلته السياسية.
اندلعت الثورة البلشفية أول ثورة شيوعية في القرن العشرين بقيادة فلاديمير لينين عام 1917، بهدف إسقاط نظام الحكم وتطبيق الشيوعية في البلاد، وتم على إثرها اقتحام السجن وتحرير كافة السجناء، وكان من ضمنهم جوزيف تيتو الذي بدأ يتشكل لديه وعي سياسي جديد، ومن هنا بزغ حبه للشيوعية، فقد أعجب بشدة بسياسة فلاديمير لينين، وبأفكار الثورة البلشفية التي تهدف لتحقيق الحرية والمساواة وتفتيت القومية والعرقية، الأمر الذي يعاني منه وطنه يوغسلافيا، فعزم على تحقيق هذه المبادئ في وطنه وتوحيد صفوفه، ورفع مكانته بين الدول، إصراره هذا دفعه لخوض العديد من المعارك.
لم يمض الكثير حتى تم القبض عليه مجدداً لانضمامه للثورة البلشفية، لكنه استطاع الهرب هذه المرة، وأعلن انضمامه لكل من الجيش الأحمر والحزب الشيوعي الروسي لمواجهة النظام الروسي، وبمشاركته في الحرب الأهلية الروسية تكون بذلك الحرب الثانية التي يشارك فيها جوزيف.
Rankovic-Tito-and-Milovan-Djilas-WWII

بعد نجاح الثورة البلشفية في إسقاط النظام الروسي، وفرض الشيوعية على الساحة السياسية، قرر جوزيف العودة إلى يوغسلافيا، وبمجرد وصوله انضم تيتو إلى الحزب الشيوعي اليوغسلافي، حيث كان يتمتع الشيوعين حينها بحرية أكبر من ذي قبل في ممارسة نشاطهم السياسي، وذلك بفضل هيمنة الاتحاد السوفيتي -رأس الشيوعية- على البلاد، ولكن تغير الحال فجأة إلى النقيض، وذلك باغتيال السياسي ميلوراد دراشكوفيتش، حيث تم توجيه أصابع الاتهام إلى الشيوعيين، فتم حظر الأحزاب الشيوعية وبدأت مطاردة الشيوعين وسجنهم، بل وقتل الكثير منهم، ويؤكد البعض أن حادث الاغتيال تم بتدبير من وزير الداخلية لإبعاد الشيوعين عن الساحة السياسية.
مع استمرار تضييق الخناق على الشيوعين قرر تيتو الانتقال إلى مدينة تروجستفو، والبعد عن عالم السياسة. وهناك بدأ العمل بمجال الكتابة، لكنه لم يستطع الابتعاد فعاود ممارسة نشاطه الشيوعي في الخفاء، وأسس فرعاً للحزب الشيوعي اليوغسلافي بمدينة زغرب، وسرعان ما تم الكشف عنه وسجن لمدة 5 سنوات، ليصبح السجن للمرة الثانية محطة انتقال جديدة، حيث التقى برفيق دربه موسى بيجادي، وبعد إطلاق سراحهما عادا إلى ممارسة نشاطهما الثوري تحت أسماء مستعارة، كوالتر وتيتو.
 وفي عام 1935 سافر تيتو إلى الاتحاد السوفيتي واستكمل مشواره الشيوعي في الكومنترن، وبعدها بعامين أمره جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي بالعودة إلى يوغسلافيا وإعادة ترتيب صفوف الحزب الشيوعي اليوغسلافي.

وصوله للحكم

Print
في السادس من ابريل عام 1941 بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية قامت ألمانيا بغزو يغوسلافيا، بمساعدة من القوات الإيطالية والمجرية، فقام جوزيف تيتو بتشكيل لجنة عسكرية داخل الحزب الشيوعي اليوغسلافي، خاصة بعد هروب الملك بيتر وانهيار جيش الدولة، تبعه بتأسيس مجلس التحرير الوطني والذي يهدف لمواجهة النازية والفاشية وصد أفكارهما، كما قام بإصدار كتيب لحث الشعب ودعوته للتوحد في مواجهة الاحتلال، وفي 27 يونيو من نفس العام؛ أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوغسلافي تعيين تيتو كقائد عام للقوات المسلحة لجهوده في مواجهة النازية وحلفائها.
وبعد انتهاء الحرب العامية الثانية تم تعيين جوزيف تيتو رئيساً للوزاراء، فأقر دستوراً جديداً وأعاد بناء الجيش اليوغسلافي، الذي أصبح واحداً من أقوى الجيوش الأوروبية آنذاك، ليتولى بعدها منصب أول رئيس جمهورية ليوغسلافيا.

الشيوعية التيتوية

4D308E38-131C-43BB-B7BA-868A83884AB6_mw1024_mh1024_s
كان تيتو مناهضاً لسياسة جوزيف ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي، ولطالما نادى بضرورة تعدد طرق الوصول للاشتراكية، فليكن لكل دولة نهجاً يناسبها تسير به، الأمر الذي لم يعجب ستالين ورأى فيه تمرداً وخروج عن الاشتراكية الصحيحة، فقام بطرد تيتو من منظمة الكومنترن، وأطلق على سياسته “الشيوعية التيتوية” كنوع من السخرية والاستخفاف بسياسته،  وبمرور الوقت أصبح هذا اللقب يطلق على كل التيارات الشيوعية التي تنادي بالاستقلال الوطني وعدم الرضوخ لاشتراكية الاتحاد السوفييتي.
08 May 1980, Belgrade, Serbia --- Former Resistance fighters pay their last respects to their dead leader. --- Image by © Jacques Pavlovsky/Sygma/Corbis
وتتلخص سياسة تيتو في الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي، والوقوف على الحياد وعدم الانحياز لأي من فريقي أوروبا، حيث قام بتأسيس حركة عدم الانحياز بالتعاون مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والرئيس جواهر لال نهرو، وبتأسيسه لهذه الحركة لاقى تيتو إعجاباً ومساندة من مختلف دول العالم.
واحدة من أهم سياسات تيتو  أيضاً؛ مساعدة الشعوب في الحصول على حقها في الحرية، وذلك يتجلى في موقفه مع القضية الفلسطينية، فبالرغم من تأييده للسلام بين العرب وإسرائيل، إلا أنه دعم فلسطين بفوج من المقاتلين الكرواتيين للقتال جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين في حرب 1948، وفقاً لما أظهرته وثائق من أرشيف الحزب الشيوعي اليوغسلافي، ليس هذا فقط بل قام بقطع كل العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أثناء حربها مع الدول العربية عام 1967.

رحيله

Former president of Yugoslavia Josip Broz Tito
في عام 1979 ساءت الحالة الصحية لتيتو، وراحت في التدهور حيث كان يعاني من انسداد شرياني في ساقة اليسرى، وبعد رحلة علاج طويلة قرر الأطباء بتر ساقه، لتسوء حالته أكثر ويفارق الحياة في الرابع من  مايو عام 1980، ويعد هذا التاريخ نقطة سوداء في تاريخ يوغسلافيا التي انهارت برحيل مؤسسها، تم إعلان الحداد في جمهورية يوغسلافيا لمدة 7 أيام، وتم تحضير جنازة مهيبة حضرها معظم قادة وزعماء من مختلف دول العالم.

انهيــار يوغوسلافيـا

yoguslavia

كان رحيل تيتو هو بداية الانهيار ليوغوسلافيا التي كانت تضم ( صربيا، كرواتيا، سولوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، مقدونيا )، وبدأت تنشب الخلافات برحيله، حتى بدأ الاتحاد اليوغوسلافي بالانهيار منذ بداية التسعينات بانفصال الدول المكوّنة له تدريجيـاً، حتى اختفت كلمة ( يوغوسلافيا ) من الخريطة تماماً سنة 2006 ..
كانت مبادئ تيتـو التي تأسست عليها يوغوسلافيا قوية وتبدو مناصرة للحريّة والمبادئ الاشتراكية، ولعبت يوغوسلافيا في عصره دوراً كبيراً على مستوى العالم، ولكن، بمرور السنين بدا واضحاً للجميع أنه بقدر الضجيج والتحركات التي خاضها تيتو لتأسيس هذا الاتحاد، إلا أنه لم يكن قوياً كما كان متصوّراً، بدليل أنه لم يدُم بعده أكثر من 10 سنوات إلا وبدأ في الانهيار تدريجياً، مخلفاً حروباً أهلية مروّعة في التسعينات بين دول الاتحاد..
من مرور أكثر ثلاثة عقود على رحيل تيتو، إلا أنه لا يزال يمثل نقطة اختلاف كبيرة حتى الآن. مؤيدوه يرونه قائداً وبطلاً خلص بلاده من النازية، واستطاع وضع حد ومسافة فاصلة بينه وبين الاتحاد السوفييتي رأس الشيوعية في المنطقة، فضلاً عن جهوده في توحيد اليوغسلافيين والقضاء على العرقية والقومية، أما معارضوه فيرونه نموذجاً لديكتاتور حكم بلاده بقبضة من حديد، أخرس الأفواه وسحق المعارضة، وقتل مئات الآلاف في السجون ومعسكرات الاعتقال.
وبين هذين الصورتين المتناقضتين ثمة حقيقة واضحة تماماً لا تحتاج إلى دلائل؛ وهي انهيار الصرح اليوغسلافي برحيله، وتفتته إلى جمهوريات عدة بدأت في التناحر والتقاتل، لتختفي يوغسلافيا تماماً وتصبح مجرد ذكرى عابرة يحن إليها كبار السن الذين عاشوا في ربوعها فترة من الزمن.